شوط جديد تستقبله «تراثنا» منذ الآن.
ليس فقط لاستفتاحها العقد الثاني من عمرها المبارك، بل أيضاً لغياب ألمع نجم كان يسطع في سمائها..
لقد جاءتكم «تراثنا» هذه المرّة إذن وهي تنعى فقيدها الكبير الذي أغدق عليها، عطاءً وعطفاً وترشيداً، حتّى استقام عودها وصلب ساقها واتّسع ظلّها واستطاب الناس ثمراتها..
وعزّ عليها ومَـضّ فيها أن تنعى مَن كانت تراه مَن أوّل مَن يُعنى بها! وأن ترعى ذِكراه، وما فتئت تراه يرعاها!.. وحقَّ لها أن تقف طويلاً أمام هذا الصرح الشامخ الذي وسع آفاقَها ظلُّه، والبحر الزاخر الذي ما عرف الجزرَ مـدُّه..
ذلك هو العَلَمُ الذي طالما رفعته «تراثنا» عند أهمّ مداخلها، والقلمُ الذي لم يغب نداه مرّةً عن ثَرِيّات صحائفها..
ذلك هو العلاّمة الكبير السـيّد عبـد العزيز الطباطبائي قدس سره ، الرجل الذي تسلّق سلّم العِلم والبحث والتحقيق حتّى استوى في الصفّ المتقدّم فيه، ولا شكّ أنّ لهذا الصفّ المتقدّم طلائع مبرّزين، ولقد كان فقيدنا، بحقّ وجدارة، متألّقاً بين هذه الطلائع العزيزة في عصرنا هذا، بما أُعطيَ من حافظة ثاقبة، وصبر عظيم، وصدق عزيمة، وعلوّ همّة.. وإذا كانت تلك الخصال متوفّرة لا ريب لدى نظرائه من المحقّقين الكبار، فلقد زان فقيدُنا خصالَه بخصائص قَـلَّ أن تجد أخواتها عند غيره...
فذلك الصفاء المتميّز الذي كان يفيض من بين جوانحه إنّما هو سيماء الصالحين من أبناء قروننا الاَُولى!
وذلك التواضع الذي يدهش له جليسُه، أين تجد نظيره إلاّ لدى مَن خشع قلبه لله تعالى حقّاً، فلم يتسلّق إلى نفسه شيء من مسحات غرور أو كبرياء، ولا مثقال ذرّة! إنّه تواضع الطبع والسـجيّة، لا تواضع التطبّع والتكلّف والمداراة.
وخصلة ثالثة، لو قلتَ إنّك لا تجدها عند غيره، فقد لا تعدو الصدق والاَمانة، ولا تقدح أحداً بغير حقّ، تلك هي: عطاؤه الذي لا يعرف حدّاً إلاّ جهده وما يملك، إنّه العالِم الذي لا يكتمك عِلماً ينفعك، ولا يخفي عليك فائدةً وجدها، باسط كنوزه بين أيدي طلاّبها والمعنيّـين بها، إنّه يعطيك حتّى أعماله التحقيقية وبحوثه الجاهزة متى وجد لديك اهتماماً تشفيه، أو تصبّ فيه، أو تلتقي معه.. يعطيكها كاملة، فتكمل بها عملك، وإن راقت لك اخترتها كلّها لتنشرها باسمك أنت، يعطيك وهو يعلم ذلك، بل ربّما أعطاك لاَجل ذلك، ولقد أعطى على هذه الطريقة كتباً، وليس فوائد محدودة فقط، ولقد حفظ عليه ذلك من حفظ فذكر له حقّه أو بعض حقّه في محلّه، فيما تغافل بعضٌ وغضَّ الطرْف، وقد نجد له عذراً أنّه لو ذكر ذلك الحقّ كاملاً فسوف لا يبقي لنفسه شيئاً!!
ذلك الباحث المنقّب المتبحّر الذي أنجز أربعة وثلاثين كتاباً، تأليفاً وتحقيقاً، وبعضها في مجلّدات، مع عشرات البحوث والمقالات مع الحواشي الكثيرة على أُمّهات موسوعاتنا الرجالية والحديثية، والذي طبّق صيته الآفاق، عالماً بنفائس المخطوطات الاِسلامية في مكتبات الشرق والغرب، والذي قصده المحقّقون والباحثون على الدوام، صغاراً وكباراً.
ذلك الاَب المهيب قد رحل عن مثل ثروة العاملين الزاهدين، لقد خلّف ثروة الاَغنياء بحقّ، فخلّف التراث الخالد ما بقي الاِنسان يحيا على هذه الاَرض..
لكنّه لم يترك ثروة المتورّمين، أموالاً وعقارات وأسـواقاً وعمارات! لم يخلّف تراثاً فانياً يتنازعه بعده الوارثون، بل خلّف تراثاً باقياً به سيفخرون ما عاشوا وما عاشت ذرّيّاتهم، وعسى أن يكونوا أهلاً لاِحيائه، ولقد أبدوا حتّى الآن في سبيل ذلك أحسن الجهد وأطيبه منذ رحيله وحتّى يومهم هذا، فكشفوا بين آثاره من كنوز مفرّقة على الاَوراق أو في حواشي الكتب وبطون أغلفتها.
فأصبحت هذه الآثار اليوم مزار المشتاقين والعارفين والباحثين، ومقصد المكتبات الكبرى لتنقل بالتصوير جميع تعليقاته على ما في مكتبته الغنيّة من الكتب الكثيرة، لتكون في متناول زوّار المكتبات ومراجعيها، وهذا ـ بلا ريب ـ من صلب طموحه رحمه الله ، ويناسب قيمة جهده العلميّ الدقيق.
أمّـا مؤسّـسة آل البيت عليهم السلام لاِحياء التراث، والتي عنها تصدر «تراثنا» فقد بادرت بطباعة ونشر اثنين من أعماله النفيسة قبل انقضاء أربعين يوماً على رحيله، وهما: «ترجمة الاِمام الحسـن عليه السلام من القسم غير المطبوع من (الطبقات الكبير) لابن سعد» و «مكتبة العلاّمة الحلّي».
ذلك العملاق الراحل قد كان بحقّ الامتداد الاَصيل والاَمثل لشيخيه الخالدَين: الشيخ الاَميني، صاحب «الغدير»، والشيخ الطهراني، صاحب «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» و «طبقات أعلام الشيعة»، وهما العَلَمان اللذان لازمهما فقيدنا تمام ربع قرن إبّان اشتغالهما في موسوعاتهما الضخمة، فكان بحقّ الروح التي امتدّت عنهما، وقد زاده شغفه بهما تعلّقاً بآثارهما، فبذل في خدمتها جهداً جبّاراً زانها كثيراً وألبسها حلّة الكمال.
ومرّةً أُخرى بين «تراثنا» وفقيدها الجليل، وهي تنعى ما كان بينهما من وصل وتكامل.. فلقد كان العلاّمة الراحل يكرّر مراراً أُمنيّـته التي كانت تشـغل باله أيّام كان في النجف الاَشـرف، وكان يفاتح بها كبـار المهتمّين بالتراث والفكر، كان يتشـوّق لاِصدار مجلّة فصلية تُعنى بتراث أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومحبّيهم، وما زالت هذه الاَُمنيّة تراوده وتشغل باله حتّى تحقّقت في «تراثنا» التي أصدرتها مؤسّـسة آل البيت عليهم السلام لاِحياء التراث، فوجد السـيّد الفقيد فيها ضالّته المنشودة ومحلّ تحقّق أمانيّه، فكان معها منذ عددها الاَوّل بقلبه وكيانه وعطائه.. كما وجدت «تراثنا» فيه أيضاً ضالّتها، فكان قطباً لامعاً بين أقطابها، وباباً ثابتاً في أبوابها، وعلماً شامخاً في أعلامها. لقد تكامل الاَملان، وتساير الصاحبان عِقداً من الزمن على أتمّ ما يكون الوصال والوئام، حتّى أفلت شمس ذلك العِقـد بانطفاء شـمعة الصاحب الوفيّ المؤتمن، لتبقى «تراثنا» تشـقّ طريقها إلى أمام، محقّقةً أُمنيّاته بعد رحيله، فالمهمّات كبيرة، والدرب لم يزل مفتوحاً، والشوط طويل، وتراثنا ما زال يدعو الباحثين والمحقّقين إلى البحث والتنقيب والتحقيق، وإن كان على «تراثنا» وهي رسالة التراث، أن تنعى علاّمة امتزجت ذِكراه بالقلوب والاَرواح، فإنّها ماضية على عهدها بإذن الله تعالى، وبتفاؤل وأمل كبيرين، فهذه الاَُمّة أُمّة ولود، أنجبت وسـتنجب ما بقيت أفذاذاً فيهم كلّ الاَمل المنشود.
ولقد حظيت «تراثنا» منذ انطلاقتها الاَُولى باهتمام هذه الطبقة من المحقّقين الكبار والباحثين الاَفاضل، الساهرين على خدمة تراث أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بقلوب لهفى لاَن تتكشّف أنوار هذا التراث الثَـرّ، طريق الهدى والنور، لاَبصار السائرين وبصائرهم، وسوف تبقى «تراثنا» الفخورة دائماً باحتضانها الاَسماء اللامعة وآثارهم الثريّة والجديدة والنافعة فخرها بما احتضنته من تراث فقيدها وفقيدهم السيّد الجليل والعلاّمة الكبير، شيخ المحقّقين السيّد عبـد العزيز الطباطبائي رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنّاته.
﴿الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون *
أُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون﴾
هیئة التحریر